((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ)) بإطاعة أوامره ونواهيه، وهذه الفاتحة تلائم خاتمة سورة آل عمران حيث قال سبحانه "واتقوا الله" ((الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ)) هي نفس آدم أبي البشر (عليه السلام) ((وَخَلَقَ مِنْهَا))، أي من تلك النفس، أما بالخلق من فضلة طينته، أو المراد من جنس تلك النفس ((زَوْجَهَا)) وهي حواء (عليها السلام)، فإن هذا الإله الخالق القادر حقيق بالتقوى، ولا يخفى أن ذلك لا ينافي خلق زوجتين جديدتين لهابيل وقابيل حتى نشأ منهما إبنا عم -كما عن الأئمة (عليهم السلام) -إذ الكلام في إبتداء الخلقة ((وَبَثَّ ))، أي نشر وفرّق ((مِنْهُمَا))، أي من هاتين النفسين ((رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء)) وهذا أيضاً لا ينافي إذ أصل البث منهما، ولعل عدم ذكر لفظة "كثير" هنا لمعلومية ذلك، أو للتفنن في العبارة الذي هو من أساليب البلاغة ((وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ))، أي يسأل بعضكم بعضاً بسببه فتقولون: أسألك بالله إلا ما فعلت كذا وصنعت كذا ((وَالأَرْحَامَ))، أي اتقوا الأرحام، وتقوى الله عدم مخالفته، وتقوى الأرحام عدم قطعها، وهذا مناسب لما سبق من خلقهم جميعاً من نفس واحدة، فهم متشابكون من أسرة واحدة، فلا ينبغي لبعضهم أن يقطع بعضاً ((إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)) يرقب أعمالكم وأقوالكم ونيّاتكم، فلا تفعلوا ما يوجب سخطه وعذابه وعقابه.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة النساء
2
((وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ))، أي أعطوا اليتامى الذين فقدوا آبائهم أو أمهاتهم وورثوا منهم أموالهم التي بأيديكم أيها الأوصياء، أو كل من كان مالهم بيده، والمراد عدم أكل أموالهم، ثم الإتيان في حال صغرهم الصرف عليهم وفي حال كبرهم أعطاهم إياها ((وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ))، أي لا تعطوهم الرديء في مقابل الجيّد، كأن تأخذوا أراضيهم الجيدة وتعطوهم أراضي رديئة وهكذا ((وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ))، أي بضمّها الى أموالكم بأن تخلطوا بعضها مع بعض وتأكلوها جميعاً ((إِنَّهُ))، أي إنّ كل واحد من التبديل والأكل ((كَانَ حُوبًا))، أي إثماً ((كَبِيرًا)).
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة النساء
3
وقد كان تحت وصاية الرجل يتيمة فيأخذها طمعاً في مالها، فنهى الله عن ذلك بقوله ((وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ))، أي لا تعدلوا ((فِي الْيَتَامَى))، أي لا تعملوا بالعدل في زواجهنّ فتظلموهنّ بإبقائها معلّقة تريدون بذلك أكل أموالهم بحجّة الزواج ((فَانكِحُواْ)) غيرهنّ من ((مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء)) فإنّ اليتيمة لعدم وجود كفيل لها معرّضة للظلم والحيف أما غيرها فليست كذلك، ثم بمناسبته حكم النكاح يمتد الكلام حول موضوع تعدّد الزوجات ((مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ))، أي انكحوا إثنين إثنين أو ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة، والمراد تزويج ثلاثة وثلاثة -مثلاً- في وقت واحد، وذلك مثل باع القوم أمتعتهم بأهل البلد يُراد أنّ ذلك وقع في الجملة لا أن كل فرد فعل ذلك سواء في طرف البيع أو الشراء، ولا يخفى أن خوف عدم القسط لا يوجب حُرمة النكاح وضعاً بمعنى بطلانه إذا نكح بل النهي عنه تكليفاً، وهل هو حرام أو إرشاد غحتمالان، كما لا يخفى أن جواز النكاح مثنى وثلاث ورباع لمن أمِن من نفسه وأنه يتمكن من أن يعدل فيما فرض الله لهنّ من الحقوق ((فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ)) بينهنّ في ما فرض الله تعالى ((فَوَاحِدَةً)) وهذا من باب المثال وإلا فمن عَلِمَ أنه يتمكن أن يعدل بين إثنتين فله أن ينكح إثنتين لا أزيد وهكذا بالنسبة الى الثلاث، وهذه الآية لا تنافي قوله تعالى (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء) إذ المراد العدل في كل شيء حتى الميل القلبي ((أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ))، أي اقتصِروا على الإماء فإنهنّ لا تحتجن الى القسم ونحو من الحقوق الواجبة على الرجال في مقابل الحرائر، والمُلك نُسب الى اليمين لأن اليد هي الغالبة في العمل، واليمين من اليدين أكثر عملاً من اليسرى ((ذَلِكَ)) الزواج من الواحدة أو الإقتصار على ما ملكت اليمين ((أَدْنَى)) أقرب ((أَلاَّ تَعُولُواْ))، أي لا تميلوا عن الحق ولا تجوروا.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة النساء
4
((وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ))، أي مهورهنّ ((نِحْلَةً))، أي عطيّة فإنّ الله سبحانه أعطاها إياهنّ في مقابل الإستمتاع منهنّ لا على نحو الإبتياع ونحوه ولعل المراد في كلمة "نِحلة" إشارة الى تقدير المرأة وترفيعها عن مستوى المعاملة ((فَإِن طِبْنَ لَكُمْ)) أيها الأزواج ((عَن شَيْءٍ مِّنْهُ))، أي من المهر ((نَفْسًا)) تميز لـ "طِبنَ"، أي أعطين عن طيب النفس لا بالجبر والإكراه ((فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا)) الهنئي الطيب المساغ والمريء المحمود العاقبة.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة النساء
5
ولما تقدّم الأمر بدفع أموال الأيتام إليهم عقّب ذلك بعدم الدفع الى السفيه ((وَلاَ تُؤْتُواْ))، أي لا تعطوا ((السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ)) وغنما أضاف المال إليهم لأنّ المال إنما هو للإجتماع بصورة عامة فإذا دُفع الى السفيه تلفه وكان نقصاً بالنتيجة عن الإجتماع وليس المراد بكون المال للإجتماع عدم الملكية الفردية بل المراد أنّ هذا المجموع من الأموال لإنتفاع المجموع فإذا تلف منه شيء كان نقصاً على المجموع ((الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً)) فإنّ بالمال يقوم أمر البشر إذ لولا المال لم تقم أمور الناس ولم تستقم الراحة والمعاملة بينهم ((وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا))، أي في تلك الأموال، ولعل عدم ذكر "من" مع أنه الأنسب لإفادة لزوم أن لا يقتطع من المال قطعة ثم قطعة حتى تفنى بل يكون الرزق في المال بأن يبقى المال على أصله وذلك لا يكون إلا بتدبيره باتّجار ونحوه حتى لا ينقص منه ((وَاكْسُوهُمْ)) وذكر هاذين من باب المثال وإلا فاللازم القيام بجميع نفقاتهم ((وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا)) بأن تتلطّفوا لهم في القول، وذلك لأن اليتيم والسفيه معرّضان للمخاشنة والنهر.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة النساء
6
((وَابْتَلُواْ))، أي امتحنوا ((الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ))، أي السن الذي يتمكنون من النكاح والمواقعة فيه وهو سن البلوغ الشرعي ((فَإِنْ آنَسْتُم))، أي وجدتم ((مِّنْهُمْ رُشْدًا)) والرُشد عبارة عن تمكّن الشخص من إصلاح أمواله بلا سرف ولا تبذير ولا سَفَه ((فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ)) المودعة عندكم ((وَلاَ تَأْكُلُوهَا))، أي لا تأكلوا أموال اليتامى ((إِسْرَافًا))، أي زيادة على قدر أجرتكم في حفظها فإن الإسراف التعدّي عن الحد ((وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ))، أي لا تأكلوا أموالهم سريعاً من جهة خوف أن يكبروا فيأخذوها منكم فقد كان بعض الأولياء يتلف مال اليتيم قبل أن يكبر حتى إذا كبر قال له صرفته عليك ((وَمَن كَانَ)) من الأولياء ((غَنِيًّا)) يجد مؤونة سنة كاملة ((فَلْيَسْتَعْفِفْ)) يُقال استعفف من الشيء إذا إمتنع منه، والمعنى الولي الغني لا يأخذ شيئاً لنفسه من مال اليتيم بعنوان الأجرة والعوض ((وَمَن كَانَ)) من الأولياء ((فَقِيرًا)) لا يملك مؤونته لاقوة ولا فعلاً ((فَلْـ)) ـه الحق في أن ((يَأْكُلْ)) من مال اليتيم ((بِالْمَعْرُوفِ)) الذي هو قدر أجرته على حفظ أمواله لا أزيد من ذلك ((فَإِذَا دَفَعْتُمْ)) أيها الأولياء ((إِلَيْهِمْ))، أي الى الأيتام الذين بلغوا ورشدوا ((أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ)) حتى لا ينكروا في المستقبل فإنّ الشهود حينئذ يكونون في جانبكم لدى الإنكار ((وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا))، أي محاسباً وشاهداً، فارقبوه في أعمالكم فإنه يعلم ما تفعلونه بأموال الأيتام.